اضطراب ثنائي القطب: والسبب الذي لا يجب أن أبحث عنه
لا أدري كيف أبدأ حقيقة...
على أي حال.. يكفي أن تصل حروفي إلى قلب من يقرؤها...
كما سبق وذكرت... أنا مصابة بثنائي القطب الصنف الأول... وهو عبارة عن مرض وراثي في أحيان كثيرة..
يسبب هذا المرض اختلالات كيميائية حادة في المخ، تؤدي إلى نوبات من الجنون واضطرابات متطرفة في المزاج..
المرض لم ينطلق من لا شيء داخل عقلي في سن السادسة عشر أو الخامسة عشر، كما يظن الأطباء.. أو كما ظننت أنا سابقا..
المرض بدأ قبل سنوات كثيرة ونتاج تراكمات عديدة انطلقت من قلبي، وما حدث على شكل مرض كان مجرد نتيجة لكل الأحداث التي سببت انهيارات عاطفية أولا...
ثم
يقال أنه يُفضل عدم الغوص في أسباب المرض العقلي والنفسي او البحث عنها..
فهو أمر معقد لن يأخذ لشيء..
لكن.. أجد أنني أتذكر وأحاول الفهم كي أصل لما حدث لعقل ولد بخير وانتهى بجنون..
فقط كي أجد حقيقة ترضي أسئلتي.. بعيدا عن اتهام الوراثة...
ثم
جاءت صدمة الطفولة الأولى عندما بلغت السادسة من العمر، حينها بدأت مشاعري تضطرب لأول مرة من أمي...
مهلا... لا... ليس من أمي، بل من أستاذة الابتدائية المتوحشة تلك، فقد قامت بضرب تلميذة أمامي بطريقة عنيفة، فأصابني الذعر وكرهت الدراسة..
فقامت أمي بتحميلي مسؤولية إنقاذ العالم من خلال أن لا أكون جاهلة..
حدث ذلك باستغلالها موقف رؤيتي الحرب على التلفاز لأول مرة، لم أتحمل بشاعة الواقع وبكيت كثيرا..
قالت لي: "لو ترغبين في تغيير العالم وإنقاذه لا تكوني جاهلة، إن ضعف الشعوب هو الجهل"...
وبهذا الكلام شجعتني أمي المثالية على الدراسة بطريقة ما، طريقة تستغل فيها براءتي كي تحصل في النهاية على فتاة جامعية وذكية..
ثم
درست بحقد وطموح لسنوات، إلى أن وصلت إلى وجهة لم أتوقعها يوما لا أنا ولا أمي "حدود عقلي"..
وصلت حدود عقلي عندما كنت في الخامسة عشر...
في ذلك الوقت اكتشفت أنني لن أنقذ أحدا لا بجهلي ولا بتعلمي، فكرهت الدراسة مجددا... لدرجة أعلنت فيها رسوبي...
...بعدها بسنة...
وفي سن السادسة عشر، تجاوز عقلي الحدود بتطرف فجأة وانفلت مني... رافضا حقيقة الواقع... واقع الرسوب، وواقع انني لن انقذ احدا...
حدث ذلك بطريقة لازلت أجهلها للآن...
كل ما أذكره هو النتائج، النتائج التي حصدتها حين أرسل لي ذهانا (شم ورؤية وسماع أشياء غير موجودة) وجنون عظمة (الإيمان أنني شخص خارق)، رفقة سراب يخبرني أنني سأكون ناجحة ومنقذة بكل تأكيد...
حصدت نتائجا خربت حياتي وأعادتني للدراسة بكل حقد وطموح مجددا..
ثم
وبكل بؤس...
أصبحت فتاة جامعية ذكية فاشلة فاقدة لعقلي، يبدو أن أمي حصلت على كل ما تتمنى اتجاهي بطريقة بشعة..
أما أنا فلم أحصل على شيء... لم أحصل على شيء يجعلني أرى أنني أنا من كنت بحاجة للإنقاذ...
لم أحصل على شيء يريني مرآة نفسي، ويحثني على العلاج والشفاء من كل ما عشته وما حدث معي... عشت ببؤس شديد، مؤمنة لسنوات ضاعت من عمري بوهم قتلني وتركني حية...
ثم
في الوقت الذي بكيت فيه خوفا من أستاذتي المتوحشة، كان على أمي بذل قليل من الجهد وتغيير القسم لي، أو المدرسة، أو أخذي لدى طبيب نفسي يعالج الصدمات لدى الأطفال، بدل اللعب على عواطفي بتلك الطريقة، أمي لا تقل توحشا على أستاذة الإبتدائية تلك، فكلتاهما لعب بقلبي وعقلي...
ثم
كنت مجرد ساذجة تصدق كل ما يقال، وتأخذ كل شيء على محمل الجد... كنت مشروع مريضة من البداية، أعترف بذلك...
لذلك وبالنظر للأمر، لدي جزء من مسؤولية مرضي على شكل ردود فعل غير مناسبة منحتها لنفسي..
لدي جزء من المسؤولية التي هيأت نمو المرض داخلي أعترف...
رغم ذلك، لا أمنح لأستاذة الإبتدائية ولا لأمي الحق في التصرف في مشاعري بتلك الطريقة، فهما لم يضعا اعتبارا لأثر كلامهما وتصرفاتهما في عقل طفلة صغيرة ساذجة..
كنت سأتجاوز لو أنني نجوت، لكن أنا لم أنجو بعد.. فماذا عساني أن أفعل؟
ثم
أجدني لازلت أعيش وفاة قلبي، ولازلت أنظر للوقت يمر أمامي رفقة حياتي الضائعة... من غير القدرة على التعامل مع الأحداث الماضية ولا الحاضرة، لازلت كما أنا ساذجة... تأخذ كل شيء على محمل الجد، ولا يمكنها الإفصاح عن شيء إلا بالكتابة...
ثم..
إضافة إلى كل هذا..
عشت انهيارا عاطفيا آخر.. مزقني داخليا ببشاعة، بسبب صراع والديّ..
فعلاقة أمي وأبي المضطربة... هي علاقة اضطررت من خلالها اختيار طرف على حساب آخر..
فأنا ومنذ صغري... فتحت عيناي لأول مرة على أمي..
أمي... التي تدعي المثالية وعيشها في البؤس الذي سببه لها أبي نتاج مرضه بثنائي القطب..
أمي هي ضحية مسكينة قامت بالتضحية بحياتها وشبابها ومستقبلها المهني، لأجل أبي ولأجلنا نحن أطفالها..
تشعر بالندم الشديد لهذه التضحية، وتتمنى لو أنها قامت بركل رجل مثله خارج حياتها...
رجل لا يبتسم أبدا وقليل الكلام، لا يعمل من أجلنا ويمضي نهاره وليله في النوم..
من الممكن أن يكون بخير وهو في أسوأ حالاته لكنه لا يريد ذلك، فهو أبله سفيه كسول غير مسؤول ولا يبالي...
...مع الأسف الشديد...
كان هذا ما تزرعه أمي في عقولنا نحن أطفالها حول أبي، فكبرنا ونحن نحقد عليه حقدا شديدا، نكرهه ولا نعامله جيدا، نشعر أننا ضحيته وضحية كونه مجرد إنسان سيء شرير.
...في المقابل...
أحببنا أمي حبا شديدا.. نظرنا إليها على شكل ملاك منقذ للأسرة.. ملاك منقذ منحنا الهواء العليل في ظل الاختناق الذي سببه والدي..
ثم..
عندما جاء عمر السادسة عشر مني.. رفقة انفلات عقلي....
نظرت إلى الجنون.. بعواطفي.. بمشاعري.. بعقلي.. بأفكاري.. بجسدي.. وبكل حواسي..
نظرت إلى الجنون بأعين أبي، فأبصرت حقيقته لأول مرة..
فهمت مصطلحات كثيرة صامتة لم يكن ينطق بها... كالأفق المميت الذي لا امل فيه، والتشتت الذي ترافقه أفكار لن تكون... إضافة إلى النوبات التي تصنفنا كمجانين وتنزع عنا المستقبل والأهلية...
...فهمت الكثير من الاشياء...
أشياء أرتني الحقيقة... الحقيقة البشعة لمريض نفس وعقل يساء فهمه، والحقيقة المؤلمة في أن أبي مختلف عن رواية امي تماما...
فأبي كان مجرد إنسان مريض يعيش حياته ببؤس شديد..
يبحث عن الحب والقبول فلا يجده، ويبحث عن فرصة للعيش بطريقة أفضل فلا يجدها، يبحث عن حضن يحتويه أو قلب يفهمه أو حتى عقل يفكر بمنطقية ولو قليلا حول حاله فيعذره فلا يجد من هذا شيئا...
...رغم ذلك...
أمضى حياته بألم وصبر وصمت وتسامح، راميا كل ما حمله قلبه من هم لله..
وعندما رحل رحمه الله، رحل بالهدوء الذي عهدناه به، مبتسما لمرة أخيرة ووجهه يشع نورا....
...لا زالت ترافقني صدمة رحيله للآن...
صدمة لم أعي من أين أتت أو كيف حدثت..
لا زلت أشتاق إليه جدا..
أشتاق إليه وفي قلبي سعادة ورضى قليل... قليل لأنني أصلحت علاقتي معه رحمه الله ومحوت ذلك الحقد اتجاهه قبل وفاته بفترة لا بأس بها..
ثم
حقدت على أمي للمرة الثانية، لأنها لم تفهم ولم تعي شيئا حوله، وحكمت عليه بذلك السوء وحرضتنا عليه.. ..وعندما أفكر في مسامحتها..
أقول بيني وبين نفسي أنها مجرد إنسان لم يكن يعيش حالته، وشخص أَحَبّه ربما بالمقدار الكافي الذي جعله يراه كشخص عادي لدرجة عدم تقبل مرضه...
وكأنها تقول "أنت من أحببتني واخترتني لأكون زوجتك كيف تجرؤ على فقدان عقلك وتسجيل غيابك الحضوري في حياتي..."
لكن كل هذا الكلام يمحى من تفكيري بأسئلة تراودني لماذا جعلتنا نحن أطفالها ندخل في هذا الصراع؟
أليس أبي هو أبي فحسب؟
هل سأكرهه لأنك تكرهينه؟"
رغم ذلك..
أجد أنني أشفق عليها وأشكر الله، أشفق عليها لأنها لم تفهم، وأشكر الله لأنه منحني مرض والدي..
ثم..
أتساءل للمرة الالف ومئتان...
هل يحق لأمي التمني مثلا...؟
تمني ترك حياتها القاسية؟ وترك ما تسميه بتضحية لعيش حياة أفضل بطريقة أنانية؟
حينها..
نظرت إلى شعرها المتساقط وعينيها الذابلتين من التعب، ونظرت إلى صحتها المهترئة وجسدها البالي..
فعلمت أن هذا كان من السنين القاسية التي عاشتها مع أبي رحمه الله، فليس من السهل أبدا التعامل مع شخص مريض خاصة بثنائي القطب..
أمي..
انقهرت بكثير من الأشياء، أولها عدم قدرتها على الاستيعاب، استيعاب أبي المريض واستيعاب أنه مريض...
فتركت حياتها وتركت شبابها بندم وقلة حيلة... ثم آتي أنا في النهاية لألومها على التمني..
حسنا يا أمي يمكنكِ التمني إن كان هذا عزاؤك لنفسك، أنا آسفة عليكِ وعلى أُسْرتنا..
ثم..
كل ما حدث معي..
كل تمزق.. كل انهيار... ايقظ وحشا يسمى ثنائي القطب الصنف الأول داخلي..
رغم ذلك بدأت أراه كوحش لطيف أراني الحقيقة ومنحني البصيرة على طريقته الخاصة...
والبحث عن سببه العاطفي الذي أدى إليه، يجعل من كل شيء غير منطقي يبدو منطقيا وجدا..
تعليقات
إرسال تعليق